ليس مجرد اجتماع روتيني بين الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وبعض أركانه حكمه لنقاش الأوضاع الداخلية، وبعض متطلبات التنمية فى مسار شائك ومحفوف بالمخاطر والتحديات ، وليس حفلا عابرا لتناول الغذاء ونقاش بعض القرارات المهمة مع بعض الوزراء الفاعلين فى المنظومة التنفيذية، بل كان محطة تأمل، ونقطة انطلاقة جديدة، ومراجعة للعديد من الرؤي والخيارات؛ مع حزمة من الرسائل السياسية الواضحة للمهتمين بالحكامة المحلية، وآليات تدبير القرار السياسي من رجل دولة يعرف كيف يتصرف ، ويقرر وفق الأصول القانونية بشكل هادئ ، ويبرق برسائله لمن يفهم ماوراء السطور ، ويحسم خياراته بشكل عقلاني ودون الخضوع لحسابات البعض ، أو الإنشغال بأوهام النفوذ والتأثير ، أو التصرف بمنطق ردات الفعل الذى يتعامل به البعض مع الأحداث العابرة من وقت لآخر.
بالأمس كانت رسائل البيان الرئاسى المتوج لإجتماع القصر أكثر من واضحة ، وخيارات العملية السياسية محسوبة بدقة، والأفق المتاح لجميع الأطراف محسوب باليوم والليلة، وأجندة الرئيس المحكومة بإلتزامات أخلاقية فى مجال التنمية لامجال فيها للتراخي أو التأجيل أو التسويف أو المماطلة والأعذار.
لقد سمع الرئيس بوضوح رؤية الحكومة للمرحلة القادمة على لسان الوزير الأول المختار ولد أجاي، وتابع عرض مفصلا عن خطط التنمية المعتمدة من قبل القطاعات الأساسية، وتفصيلا لما أجمل من رؤى وأفكار فى عرض برنامج الحكومة أمام البرلمان ، وأطلع على مطالب السكان من كل الجهات والأطراف السياسية ، وهو عرض يقترب أو يزيد على ما أستمع له الرئيس خلال جولته المحضرة للإنتخابات الرئاسية ، وكانت القرارات بحجم المتوقع، والتكاليف الصادرة عنه محددة بالمكان والزمان والخدمة المطلوب تنفيذها، فلا مجال للتقدير أو النسيان، أو المحاباة ، أو ترتيب الصرف فى الميزانيات المعتمدة وفق أهواء المسيرين هذه المرة.
وبغض النظر عن الأرقام المحددة فى البرنامج والمشاريع المنصوص عليها، والمبالغ المرصودة للتنمية المحلية، والقطاعات المتدخلة ، يمكن الخروج بثلاث رسائل سياسية واضحة من اجتماع الخميس الأخير :
1- تجديد الثقة فى الوزير الأول المختار ولد أجاي ، وتكليفه بشكل مباشر بقيادة مبادرة تنموية مضبوطة الأهداف ، والإجراءات المطلوبة فيها واضحة، والفترة الزمنية المخصصة لها محددة (ثلاثون شهرا ) ، وهو ما يفهم من تحديد الآجال الزمنية الممنوحة للطاقم الوزارى - دون الرضوخ لمنطق الإستهداف الذى يستثمر فيه البعض- وهو مايجعل الحكومة تتصرف وفق الآجال الزمنية الممنوحة لها من صاحب القرار، بدل الحكومات السابقة التى كان يتصرف الوزراء فيها بمنطق التفويض المفتوح، دون التمييز بين صاحب الحق المطلق فى استكمال الفترة الزمنية المنصوص عليها فى الدستور (رئيس الجمهورية) ، وبين صاحب تكليف يراد منه تقديم خدمة ضمن فريق حكومى ، مما أنعكس سلبا على الحصيلة والأداء والتعامل مع الأولويات، وعدم تقدير بعض الوزراء لحجم الثقة الممنوح لهم من رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، أو على الأصح عدم فهم المطلوب بشكل دقيق من رجل يدير البلاد بمنطق يختلف عما ألفه الناس.
2- وفاء مرشح : البرنامج الحكومى الذى أقر بالأمس بكل تفاصيله المنشورة فى الإعلام ، أو تلك المتوقع الكشف عنها فى مهرجانات الداخل خلال الأيام القادمة، هو ترجمة دقيقة لمجمل المطالب التي ألتزم بها الرئيس خلال الحملة المحضرة للرئاسيات الماضية، أو حتى تلك التي طرحها أصحابها ولم يسمعوا إلتزاما صريحا بها، وعادوا وهم يعتقدون أنها محل إعراض أو تجاهل؛ لكن عودة الطواقم الوزارية إلى أصحابها ، والإستماع لهم، وبرمجة الممكن منها دون الحاجة لوسيط، سلوك يكشف حجم الفارق بين الرئيس وغيره، إنه تصرف مفاجىء فى عالم السياسية من رجل حسم الفوز بكل أريحية، ويخوض مأموريته الثانية والأخيرة، مالم تكن البلاد بحاجة لنقض قواعد العملية السياسية المتعارف عليها، فى ظل عالم يمور بالتحديات والمشاكل، وتصارع فيه النخب من أجل الحفاظ علي الكيانات القائمة فى عالم اليوم، وإبعادها من شبح الحروب الأهلية ، والإرهاب ، وأخطاء النخب السياسية الساعية للسلطة بأي ثمن.
حكامة من نوع آخر : البرنامج الحكومى المفرج عنه لم يحمل مجرد رسالة أخلاقية لطمأنة للسكان فقط ، بل أعطى رسالة واضحة كذلك عن وجود حكامة من نوع مختلف، يعرف أصحابها حجم الحاجة القائمة فى مجمل القطاعات الوزارية بشكل دقيق، والممكن القيام به لصالح حلحلة تلك الأمور ، ومايحتاجه البرنامج من تمويل وفق مخطط واضح، والآجال الزمنية المطلوبة للتنفيذ فى ظل الديناميكية الجديدة للإدارة المحلية، والروح التي خرجت بها الأجهزة الرقابية فى الداخل (الولاة) من لقاء الرئيس الأخير، والتحسن الحاصل فى مجال الصفقات العمومية ، وتسهيل الإجراءات فى ظل التقدم الحاصل فى مجال رقمنة الأعمال الحكومية.
وفى حالة تنفيذ البرنامج الحكومى بشكل دقيق، ونجاح القطاعات الوزارية فى القيام بالمسؤوليات المنصوص عليها داخل وثيقة الأولويات ، سنكون أمام حصيلة غير مسبوقة للحكومة الحالية قبل آجال زمنية تعني الكثير للنظام (الإنتخابات التشريعية والبلدية القادمة ) ، وهو ما سيجعل الرئيس يدير عملية سياسية من موقع مريح، ويجعل خصومة الحكومة فى وضعية تحتاج لأكثر من تدخل.
صحيح أن البرنامج الحالي بمجمل مكوناته هو إلتزام حكومى واجب التنفيذ، لكنه فى النهاية برنامج رئيس الجمهورية بالمقام الأول، وهو مايجعل بقية الطواقم التنفيذية والإدارية معنية به ، ومساهمتها فى تهيئة الظروف اللازمة لإنجازه واجبة، والكف عن وضع العراقيل أمام الحكومة مسؤولية الكل، واستهدافها خلال معركة التنمية أو التنقيص من الأعمال المقام بها لصالح التمكين لمشروع صاحب الفخامة شغل المعارضين للحكم لا المستفيدين من الحاكم. مايجعل بعض الإجراءات المطلوبة برأسها فى الأمد المنظور، بغية الدفع بطواقم إدارية متجانسة وقادرة على الإنجاز وتسيير المشترك.
(*)كاتب صحفي