لم تعرف من مدينة شنقيط منذ انتخاب نائبها فى الجمعية الوطنية المختار ولد داداه رئيسا للجمهورية 1961 من الإهتمام ماعاشته خلال الأشهر الأولى من مأمورية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى الثانية، ولم تستفد من نسخ المهرجان الثقافى الدورى بمدن التراث ما أستفادته من النسخة الحالية (دجمبر 2024).
فالمدينة الوادعة بين جبال لمتونه وقلب صحراء الملثمين عاشت بضع محطات حاسمة فى تاريخها منذ مرور الفاتح العظيم عبد الرحمن ابن حبيب ابن أبي عبيدة ابن عقبة ابن نافع الفهرى بالمنطقة وهو يعبر بخيوله تجاه معقل السلطة والثروة بالصحراء (أودغست) فى ضواحى تامشكط حاليا (35 كلم شمال شرق المدينة),إلى غاية تأسيس "أبير" 160 هجرية، قبل أن تزدهر المدينة فى القرن السادس الهجري، وتأخذ من موقعها الحالى شكلها الذى عرفت به خلال القرون الماضية.
عانت شنقيط ككل مدن الشمال الموريتانى عموما من وطأة الفقر والتصحر والحصار الذى بدأ مع دخول الأوربيين للمنطقة، وانتقال التجارة مع البرتغاليين إلى الشواطئ لضرب استقرار المنظومة الإسلامية الحاكمة فى أبرز قواعد الإستقرار ( الظهير المالى)، وهو وضع أستمر إلى الوقت الراهن، رغم أن المدينة كانت حلقة الوصل بين أقدم المدن التاريخية "وادان" وأشهر المدن التاريخية "ولاته"، وكانت باسمها تعرف البلاد فى العديد من الأقطار، وفيها تتمركز قوافل الحجيج، ومنها تعبر الرحلات التجارية نحو الشرق والجنوب، وفيها يجتمع أهل العلم والصلاح من كل الأقطار لتدارس الواقع وتداول جديد الفنون والتآليف.
الحضور الطاغي والإهتمام المنقوص
ومع بداية تأسيس الدولة الموريتانية الحديثة كانت شنقيط حاضرة مع أخواتها فى رسم الخريطة السياسية للبلد، فمنها أختير أول رئيس للحكومة المحضرة للإستقلال (رئيس الجمهورية الراحل المختار ولد داداه عليه رحمة الله)، ومنها ينحدر زعيم المعارضة التاريخى السفير أحمد بابه ولد أحمد مسكه عليه رحمة الله، ومنها أنحدر عدد من رموز التأثير فى القرار السياسى والثقافى بموريتانيا.
غير أن ذلك لم يشفع للمدينة التاريخية، حيث ظلت معزولة عن بقية البلاد بفعل غياب الطرق وشبكات الإتصال وضعف الخدمات الأساسية المقدمة للسكان، مما دفع أغلب سكانها للهجرة إلى العاصمة نواكشوط أو المقاطعات المجاورة، بحثا عن حياة كريمة، أو لمتابعة المشوار الدراسى، أو للإحتماء بالمدن العصرية من وطأة الفقر الذى هز أركان المدن القديمة دون استثناء .
وفى نهاية 2010 بادر الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز إلى إطلاق مبادرة ثقافية وسياسية لإنتشال المدن القديمة أو الواقع منها فى الشمال على أصح تقدير من الواقع البائس الذى تعيشه، والإهمال الذى تعرضت له، والقتل الذى مورس بحقها، لدواعى سياسية تارة، ولضعف الحكامة والتسيير فى بعض الأوقات الأخري.
وفى فبراير 2011 انطلقت أولى نسخ مهرجان المدن القديمة بمدينة شنقيط بحضور عدد من رموز البلد وبعض الضيوف الأجانب، وسط حملة إعلامية شرسة من النخب المعارضة ومقاطعة شاملة للنشاط الذى كان البعض ينظر إليه كإجراء شعبوي من أجل ترسيخ أقدام الحكومة المنبثقة من رحم انقلاب الجيش على السلطة 2009 بقيادة الجينرالين محمد ولد عبد العزيز ومحمد ولد الشيخ الغزوانى.
غير أن النشاط لم يتجاوز الجانب الإحتفالى (ذكرى المولد النبوي)، وبعض فتات النقود التى يوزعها القطاع على بعض سكان المدينة (السكن مقابل ثمن الإيجار، والضيافة مقابل تعويض)، وهو ماشكل صدمة للرئيس الجديد محمد ولد الشيخ الغزوانى عشية تسلمه للسلطة وزيارته للمدينة لترأس أول نسخة من المهرجان فى عهد حكومته الأولي.
مرحلة جديدة
بادر الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى توجيه الحكومة نحو وضع خطة تنموية جديدة لكل المدن مع تغيير فى الشكل والتسمية والبرامج المصاحبة، وهو ما استفادت منه بعض المدن الأخري، مع تفاوت كبير.
حيث كانت النسخة المقام فى "وادان" فرصة لإطلاق المكونة التنموية بعد تحضير دام سنتين، وفى مقاطعة شنقيط كانت النسخ الأفضل خلال حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى، وتعثرت المكونة التنموية فى ولاته، وكانت الإستفادة منها محصورة تقريبا فى سكان المدينة التاريخية، بينما كانت النسخ التى قبلها فرصة لتعزيز التنمية بالمقاطعات االمذكورة ( تيشيت / وادان) وفك العزلة عنهما بشكل كامل.
وفى النسخة الحالية بشنقيط كانت المقاطعة على موعد مع تغيير استثنائي فى المضمون مع سوء إخراج تتقاسم مسؤوليته العديد من الأطراف المعنية بالمهرجان.
لقد تم فك العزلة عن المدينة لأول مرة عبر إطلاق الطريق الرابط بين أطار وشنقيط بتكلفة مالية بلغت 12 مليار أوقية، وتم تدشين إذاعة خاصة بشنقيط ، وتم تجيهزها بأرقى معدات البث ، وتم بنائها بشكل يليق بمدينة حملت اسم البلاد، لتكون رافعة إعلامية وبوابة ثقافية لأبناء المدينة من أجل تقديم كنوز الثقافة والعلم للفضاء الخارجي، والتفاعل مع المحيط عبر وسيلة إعلامية يمكن التقاطها فى كل المحيط، بما فى ذلك الريف المجاور والذى لم يستفد من إشعاع تحتويه مكاتب أهلية، وتراث طمره الإهمال والنسيان.
وقد دفعت الحكومة بمشاريع أخري فى الزراعة والصحة والمياه والأمن الغذائي، مع تمويل مشاريع نوعية للشباب ومجمعات تجارية ومركب ثقافي ورياضي.
ولم يبخل القطاع الثقافي فى توجيه ربع المبلغ المخصص للمهرجان للأسر الشنقيطية بشكل مباشر عبر مكونتي الإقامة والضيافة، وكانت الوزارة حاضرة بقوة فى تفاصيل المشهد المقدم للضيوف من كل دول العالم، عبر مكونة علمية أنعشها عدد من كبار سندة الثقافة بموريتانيا، وبعض أساتذة التاريخ، مع أخطاء لم يسلم منها المهرجان، كنثر بعض الشعر الركيك ليلة الإفتتاح، وتسييس المنصة ببعض رموز الإعلام المبتذلين فى الداخل والخارج، وتحول الجهات المكلفة بالتأمين من حارس للبوابات الأمامية إلي منظم مهتم أكثر بتعذيب الجمهور وتكدير صفو المنتخبين وأطر المقاطعة والعبث بوقار ضيوفها من الأجانب وأبناء البلد أكثر من أهتمامها بالأمن. فلا تفتيش للقادمين ولكن كانت هنالك بعض التصرفات المزعجة لكل الزوار، كتقديم البعض لعلاقات شخصية، والإمعان فى إذلال البعض الآخر لحسابات لاعلاقة لها بالثقافة والتراث والتاريخ.
حظي المهرجان بحضور إعلامي كبير ، واهتمام من مجمل الأطراف المحلية، وكرس سنة التواصل بين أبناء البلد الواحد، بعد عقود من القطيعة والتنابز، وأستمع فيه الرئيس لمجمل الرؤي والأفكار، وزار فيه مجمل الورشات المصاحبة، وأستمع لبعض العروض المقدمة على تفاهة بعضها، وألتقى قبله وبعده العديد من ضيوف البلاد، وحرص على إكرام مجمل الأطراف السياسية التى لبت دعوته والإهتمام بها، وأعاد من خلاله رسم ملامح المدينة من جديد.
ومع نهايته ستكون احدى النسخ قد طويت بالفعل مع العديد من الملاحظات، ولكن الآثار الإيجابية باقية ، طريق معبد، وشبكات اتصال حديثة ومزارع يستظل بها الناس ومنها يأكلون، ومتاجر لتوفير المواد الغذائية بأسعار مقبولة، وإذاعة خاصة بالمدينة التاريخية، وشبكة مياه لتزويد الأحياء السكنية الآخذة فى التمدد بالمياه الصالحة للشرب، وتغطية جديدة لكل أحياء المدينة بالكهرباء، ومساحات خضراء لوقف زحف الرمال عن المدينة وأحيائها العتيقة، وترميم المسجد العتيق والساحات المحيطة به، وسيولة مالية بأيدي فقراء شنقيط بعد أسبوع من التعايش مع الثلة المحتكرة للسلطة والمال بموريتانيا.
سيد أحمد ولد باب / مدير موقع زهرة شنقيط