لايمتلك أحمد ولد الشيخ – وهو يدخل ربيعه الثالث – أي فكرة عن العلم الوطنى ولاتفاصيل ألوانه، ولم يسمع قط بالنشيد الوطنى (المعتمد حاليا أو الذى هتفت له الملايين حلال العقود الماضية قبل تغييره)، ولم يشاهد منذ ميلاده بضواحى "بوبريكه" (115 كلم شمال أعوينات أزبل) وجه وزير، أو والى أو مدير، لكنه مع عدد من رفاقه شاهدوا ولأول مرة وجه رئيس البلاد الحالى قبل أشهر حينما شاركوا فى مهرجان ثقافى رفعت فيه لافتات تحمل صورة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى، مع عبارات لايتقن بعض المشاركين فى المهرجان تهجيها، بحكم الحصار الثقافى المفروض على المنطقة منذ الإستقلال.
لا يشكل أحمد ولد الشيخ حالة استثنائية بمنطقة آوكار، بل هذا هو الطابع الغالب للعديد من أبناء المنطقة، بحكم ندرة أي مظاهر من مظاهر الدولة الحديثة فى فضاء تتجاوز مساحته 60 ألف كلم مربع ، أي مايعادل مساحة ولايتي إينشيري وأترارزه.
داخل فضاء منطقة آوكار توجد خمس مجالس محلية، وتغيب السيطرة المطلقة على بعض النقاط الأخرى، بحكم تدافع المسؤولية بين الجهات الإدارية فى الحوض الغربى وتكانت، وعدم رغبة أي طرف فى السيطرة على المنطقة المهجورة بين " لعيون" و"تامشكط" و"تيشيت" بحكم التكاليف المادية والإرهاق لمن أنيطت به مسؤولية الفضاء المذكور، وخصوصا فى حالة وقوع خلاف على المراعى أو نزاع على المياه أو جريمة يتطلب التحقيق فيها الإنتقال إلى المناطق المذكورة.
بين المجالس المحلية الخمسة (أم الحياظ/ أطويل/ أنولل/ الباطن/ ولاته) أكثر من مشترك، وينحدر أغلب سكانها من مجموعات قبلية تعيش فى المنطقة فى تعايش تام منذ عقود طويلة، رغم مجمل التطورات التى عاشتها البلاد منذ الإستقلال إلى اليوم.
يولد جل أطفال المنطقة خارج المراكز الصحية (حوالى 97% ) بحكم محدودية النقاط الصحية بالمنطقة عموما، وغياب أي مراكز قادرة على توفير متابعة لائقة بالنساء الحوامل (مركز أم الحياظ الصحى ومركز أطويل الصحى)، مع محدودية الثقافة الصحية بالمناطق المذكورة، ويعيش أغلب الأطفال خارج المدارس بحكم محدودية المدارس الموجودة فى منطقة آوكار عموما، وضعف الموجود منها بعواصم المجالس المحلية ، أو بعض القرى القريبة منها.
لايوجد معهد لتعليم العلوم الشرعية بمنطقة آوكار منذ الإستقلال، ولاتوجد محاظر كبيرة تستقطب التلاميذ المهتمين بتحصيل العلوم الشرعية، مع استفادة بعض أبناء المنطقة من المحاظر الشهيرة بمنطقة الحوض ( محظرة أهل الشيخ ولد دهمد/ محظرة أهل بيه/ محظرة لقويسي/ محظرة أم آفنادش)، وأخيرا بدأت محاولات محدودة ولكنها ذات تأثير كبير مع دخول معهد ورش لتعليم القرآن منطقة أم الحياظ على وجه الخصوص.
خلال العقود الأولي للإستقلال شكلت وحدة الحرس الوطنى المحمولة على الجمال "الجماله" أحد مظاهر الدولة الحديثة بمنطقة آوكار، وكانت تحركات الوحدة تثير الحماس فى نفوس سكان المنطقة، وتشعرهم بالأمان خلال الأوقات الصعبة ( فترة الحروب أو انتشار الأمراض) بحكم وجود بعض الأطباء المصاحبين لها، ورغم الطابع الأمنى الخاص للوحدة، إلا أنها كانت تتولى الفصل فى العديد من النزاعات المحلية، وتحسم القضايا الخلافية بين السكان، وتشعر سكان الفضاء بوجود دولة حديثة تحتكر القوة ولديها القدرة على حسم الأمور وإدارة الفضاء بشكل كامل.
لايوجد قاضي فى المنطقة بالكامل، وكل عقود الزواج والطلاق – على محدودية الإهتمام بها- تبرم فى تمبدغه أو لعيون بالدرجة الأولى، بينما يحول بعد الشقة من الإستفادة من المقاطعات الأربعة الأخرى المجاورة ( تيشيت/ تامشكط/ ولاته/ النعمة).
مع بداية حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى بدأت ملامح تحول فى النظرة الرسمية لفضاء منطقة آوكار، وهو ماسمح بإعادة توجيه بعض الموارد إلى سكان المنطقة، واتخاذ العديد من التدابير الرامية إلى تغيير الحياة اليومية للمواطنين فيها، لكنها نظرة ظلت تواجه الإهمال المتعمد من بعض معاونيه (عدم تنفيذ بعض المشاريع أو التلاعب بها)، مع تعطيل بعض قرارات الحكومة بافعتال الخلافات المحلية حولها، ودفع بعض الأشخاص للوقوف فى وجهها، وهو مانتج عنه ميلاد تحالف جديد يهدف بالدرجة الأولى إلى إجهاض كل مقومات التنمية بالمنطقة، وعرقلة كل المشاريع الموجهة إليها، وبث روح الفرقة والخلاف بين مكوناتها الإجتماعية، والتواصل مع دوائر القرار لإعطاء صورة مغايرة للأمر الواقع وكبح جماح أي تدخل يهدف إلى حل المشاكل القائمة فى القري والريف، وهو تحالف يضم بعض النخب الإدارية والسياسية والأمنية، وينظر إلى انفتاح المنظومة التنفيذية الحاكمة على فضاء منطقة آوكار بأنه تهديد جدي لمصالح النخبة التى عاشت على آلام أبناء المنطقة لعقود طويلة، وظلت تعزز مواقعها السياسية باستمرارعلى حساب الساكنة دون جلب مضخة مياه أو نقطة صحية أو بناء فصل دراسى أو البحث عن فرصة عمل لعاطل يسحقه الجوع والحرمان، فى بيئة كانت تعتمد بالأساس على تربية الماشية، وهو ماحول بعض أغنيائها إلى فقراء بحكم سنوات الجفاف الأخيرة.
فى مركز بلدية أم الحياظ (كبرى المجالس المحلية المشكلة لمنطقة آوكار) شرعت وزارة الإسكان فى بناء أول مدرسة بعاصمة البلدية قبل ثلاث سنوات، ولكن الأشغال ظلت متعطلة فيها منذ سنتين، تتقاذفها الجهات الإدارية والمقاول دون حل إلى الآن.
وفى المركز ذاته أطلقت "تآزر" قبل سنتين مشروعا متكاملا لبناء مركز صحي بعاصمة البلدية ومدرسة بقرية أكدرنيت، ولكن الاشغال توقفت بعد شهرين من انطلاقتها، ومع زيارة مندوب تآزر قبل أسبوعين للمنطقة تم جلب بعض العمال لمكان الورشة قبل ساعات من زيارة المندوب، ثم توقفت الأشغال مع مغادرة المندوب العام مقاطعة لعيون.
لكن هنالك قطاعات أخري كانت على مستوى المسؤولية (الصحة والمياه وسلطة التنظيم والزراعة) حيث حفرت العديد من الآبار الإرتوازية، وسيجت بعض السدود المزروعة حاليا، وتم فك العزلة عن البلدية بنسبة تتجاوز 60% عبر شبكتين جديدتين، وباشرت نقاط صحية جديدة أشغالها بالمنطقة لتقدم الخدمة لمحتاجيها بعد سنوات من التعب والإرهاق، بينما لاتزال المنطقة فى انتظار لفتة من قطاع الثروة الحيوانية، أو مبادرة من وزارة الداخلية للإعلان عن مركز إداري جديد بالمنطقة، بغية تنسيق العمل الحكومى فيها، وضمان مصالح السكان، وتعزيز الوعي بقيمة الدولة الحديثة فى نفوس أبناء آوكار.
قبل سنة ونصف بادر مجلس الوزراء الموريتانى بالإعلان عن تأسيس مدينة جديدة بمنطقة آوكار ( بدر الجديدة) فى أول اجتماع تعقده حكومة الوزير الأول السابق محمد ولد بلال بعد الإنتخابات البرلمانية والتشريعية ، وحمل المشروع - الذى بشر به وزير الإسكان ساعتها سيد أحمد ولد محمد - ملامح مدينة عصرية ( منشآت إدارية- مدارس- مركز صحي- محطة طاقة- معهد إسلامي- شبكة مياه..)، وهو ماسارع جل المهتمين بالمنطقة إلى الترحيب به، والتعامل معه كأحد أبرز رهانات التحول المحتملة فى المنطقة منذ انهيار إمارة أولاد أمبارك بعد معركة آكوينيت 1863.
غير أن تحالف المستفيدين من الوضع الراهن سارعوا عبر كل السبل لتأجيل التنفيذ، بغية تعزيز التشاور من أجل إنجاح المشروع، ليتحول التشاور إلى تحالف مدعوم من خارج المنطقة، لعرقلة القرار وحرمان المنطقة من أي إنجاز يمكن ذكره.
بل إن بعض الأصوات النشار باتت تطرح بشكل سافر ومكشوف ماتسميه المخاطر المحتملة لأي إجراء من شأنه تعزيز الوعي الثقافي بالمنطقة، ويدفع البعض بعدم حاجة منطقة آوكار أصلا لخدمات الدولة الحديثة ( التعليم والصحة والإتصالات والإستقرار)، ليظل سكانها فى نظر هؤلاء مجرد رافعة انتخابية فى المواسم السياسية، بينما ينشغل "جدار الصد" المعزول عن آلام الناس، بترتيب أوراقه من خلال الإستقرار خارج المنطقة والإستثمار فى مستقبله ومستقبل أولاده، لتعزيز موقعه بين أبناء المنطقة، والتعامل مع واقع يعتقد بأن الأيام قد تفرضه عليه فى وقت لاحق، وهو مايتطلب الإستعداد وأخذ مسافة من الآخرين، مكتفيا بزرع الشقاق بين السكان، وإبراز التناقضات الإجتماعية والعرقية فى فضاء لم يتلوث بأمراض المجتمع المعاصرة قبل هؤلاء.
لقد تعطل قرار الحكومة، وتلاشى الأمل الذى بشر به الوزير، وتبددت النظرة الإيجابية للعهد الحالى عند العديد من أبناء المنطقة بفعل بعض المحسوبين على السلطة، وحول بعض المنحدرين مأساة السكان إلى مغنم شخصي بعد تطبيق معادلة جد بائسة (إجهاض مشاريع التنمية الجماعية مقابل الولاء السياسي)، وتم تحوير النظرة الإدارية لما يجرى عبر الضغوط القادمة من مراكز ثقل القرار بالعاصمة نواكشوط.
لكن مع ذلك يظل جل السكان ينتظرون التفاتة جديدة من صاحب القرار الأول والأخير بالبلد ( رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني) وتعزيز الأمل الذى عاشته المنطقة فى منتصف مأموريته الأولى، ولجم الحلف المفضول، وإعطاء دفعة قوية للمشاريع المتعثرة، وإطلاق أخرى تلبى بعض الحاجيات القائمة وتعيد ثقة الجمهور فى المنظومة التنفيذية الحاكمة بموريتانيا.
سيد أحمد ولد باب / كاتب صحفى